لما نقول كل ما في جعبتنا امام طبيب النفسي
لطالما كان يأتي إليّ الكثير من الناس، يفرغون طاقاتهم، يشكون همومهم، يبوحون بما يؤلمهم…
حتى أن البعض منهم يصل إلى البكاء، ويروي لي حكايات لم يجرؤ على قولها لأحد، لا لصديق مقرّب ولا حتى لأهل بيته.
وكنت دائمًا أتعجّب: ما الذي يجعلهم يختارونني دون غيري؟ ما الشيء المختلف فيّ؟
حتى أدركت الحقيقة مؤخرًا…
أنا لا أُظهر أي ردة فعل أثناء استماعهم. لا صدمة، لا تأييد، لا رفض.
صمتي هذا كان يُربكهم، تمامًا كما يفعل المعالج النفسي؛ لا يُظهر مشاعره، فيفتح بذلك مساحة للآخر كي يسترسل.
شعورهم بالتوتر من ردة فعلي الغائبة، ومن صمتي الذي لا يحكم ولا يفسّر،
يجعلهم يقولون كل شيء… يفرغون ما في قلوبهم دون أن يشعروا،
كأنّ غيابي عن التعبير، كان هو الحافز الخفيّ لكشف كل
المستور.
الصمت الذي يبوح بكل شيء: فن الحياد النفسي في حضرة الألم
لطالما كان هناك أشخاص تجذب إليهم القلوب المثقلة دون وعي. لا هم معالجون نفسيون رسميّون، ولا مختصّون في العلاج السلوكي، لكنهم يتحوّلون، ببساطة وهدوء، إلى مأوى مؤقت للآخرين.
يأتي إليهم الناس، واحدًا تلو الآخر، يبوحون، يبكون، يكشفون تفاصيل مؤلمة لم يتجرؤوا يومًا على قولها لأقرب الناس إليهم.
يتساءل هؤلاء الأشخاص: لماذا يختارونني دون غيري؟ ما الشيء المختلف فيّ؟
هل هو تعاطف خفي؟ طاقة جذب؟ أم مجرد صدفة تتكرر؟
لكن الحقيقة، من زاوية علم النفس، أعمق من ذلك.
الحياد العلاجي: حين يصير الصمت هو العلاج
ما تمارسه دون وعي قد يكون تطبيقًا حيًّا لمفهوم نفسي يُعرف باسم "الحياد العلاجي".
وهو أسلوب يرتكز عليه العلاج التحليلي، يقوم فيه المعالج بخلق مساحة خالية من الأحكام، التفسيرات، أو ردود الفعل العاطفية.
مساحة صافية تمامًا، تسمح للمُتحدّث أن يقول كل شيء دون خوف من الصدمة أو الشفقة أو المعارضة.
لا إيماءة، لا تعليق فوري، لا نصيحة متسرعة. فقط حضور هادئ، صادق، ومُطمئن.
هذا الصمت ليس برودًا، بل احتواء ناضج.
هو صمتٌ يُشبه الجدار الذي تُسند عليه روحك المتعبة، دون أن يضغط عليك أو يُحوّلك إلى مشروع "حلّ" أو "مشكلة".
لماذا ينفتح الناس أكثر أمام من لا يتكلم؟
الجواب بسيط: لأنهم يشعرون بالأمان.
في ظلّ الحياد، لا يشعر المتحدث بأنه مراقَب أو مقيَّم.
بل كأن غياب التفاعل هو نوع من "المرآة الصامتة"، التي تعكس ما بداخله وتسمح له أن يرى نفسه بوضوح، ربما لأول مرة.
أحيانًا، صمت المنصت يُربك المتكلم، فيبوح أكثر لملء الفراغ.
لكن هذا الفراغ في الحقيقة ليس نقصًا، بل مساحة علاجية نادرة.
لكن من يحتمل من يحتمل الجميع؟
رغم سموّ هذا الدور، إلا أنه قد يكون مرهقًا نفسيًا.
لأن الشخص الذي يُنصت للجميع ويمنحهم الراحة، قد لا يجد بدوره من يُنصت إليه.
يتعوّد أن يكون الطرف القوي، العقلاني، الصامت دائمًا، فيبدأ بإخفاء ألمه تحت صلابته الظاهرة.
لكن الاحتواء لا يكتمل إلا إذا شمل الذات أيضًا.
أن تكون مرآة للناس لا يعني أن تصبح شفافًا لنفسك.
الصمت يمنح الآخرين مساحة للكلام، لكنه لا يجب أن يسلبك أنت حق التعبير.
خلاصة
أن تُنصت دون حكم، هو هدية نادرة.
أن تسمح للناس أن يفرغوا ألمهم دون خوف، هو تعاطف ناضج.
وأن تُدرك حاجتك لأن يُنصت إليك بدورك، هو وعي ضروري.
في زمن يمتلئ بالضجيج والتسرع، لعل أصدق ما نقدّمه للآخرين هو أن نُصغي، بصمت يحترم المعنى، لا بصمت يُخفي التجاهل.
وحين نُتقن هذا الفنّ، نمنح الآخر فرصة ليرى نفسه من خلالنا، بوضوح، دون خوف، ودون أن يشعر بالخجل من ألمه.


🤍شكرا على هذه المعلومة