"مرآة الظلال: حكاية بين الوهم والوعي"
في مساءٍ شتويٍ كئيب، حين اشتد برد المشاعر أكثر من برد الطقس، جلستُ في زاوية غرفتي متدثرةً ببطانية مهترئة، كأنني أحتمي بها من هذا العالم الذي لا يكف عن مضغ روحي. كنت أتنقل بين تطبيقات التواصل كما أتنقل بين غرفٍ باردة في منزل خالٍ من الدفء. كان ذهني كأرضٍ أجدبت من المعاني، لا يُروى عطشها بأي منشور أو صورة.
هناك، في أحد القروبات التي اعتدت التواجد بها، والذي كان معظمه من جنسية واحدة، كنت أعلم أن لي فيه حضورًا يعرفه القريب والبعيد، صوتي مسموع واسمي يتردد كأغنية حفظها الجميع، لقبي كان كالوشم لا يُمحى.
لكن ذات مساء، ظهرت فتاة لم أر لها طيفًا منذ شهور. دخلت القروب بهدوء لا يُشبه الغرباء، بل كأنها كانت تراقب من بعيد كل هذا الوقت. كنا نخوض حديثًا عن الاضطرابات النفسية، وكلٌ منا يلقي بما في جعبته، وكان أغلبه نسخًا مكررة من معلومات سمعناها عشرات المرات. حتى قاطعتنا تلك الفتاة، بكلماتٍ خرجت كالنصل من بين ضباب الركاكة.
كلماتها كانت تختال بثقة، تزن الفكرة قبل أن تُلقيها، وكأنها لا تنطق إلا بعد أن تخضع الكلمة لمحكمة داخلها. كان وصفها دقيقًا، كأنها تسرد تجربةً لا كتابًا، وكنت مأخوذة بطريقة سكبها للمعرفة، كمراهقة في مثل أعمارنا، لكن حديثها كان حديث من عاش ألف عام.
قلت لنفسي: لا بد أن أصاحبها. شعرت أنني أمام مرآتي، لكن تلك المرآة أعمق، أبعد، فيها عاطفة تُغرق، ورؤية تشقّ الضباب.
بدأنا الحديث عن اضطراب تبلد المشاعر، فأخذت أستمع بشغف، حتى وإن لم أكن على دراية به. لم أكذب، بل اجتهدت أن أواكبها بكل ما أملك من شغف. اكتشفت أننا نحب نفس نوع الموسيقى، ونعزف الجيتار معًا، لدينا ذوق متقارب في الملابس والأفلام وحتى في صمتنا، كان ثمة تشابه.
ثم، انتقل الحديث إلى اضطراب النرجسية والانفصام، فبدأت تسرد تجاربها وكأنها موظفة في مصحة عقلية. قالت إنها عايشت حالات غريبة، إحداهن أخبرتهم أنها خبيرة سياسة، وبعد أيام كانت تقول إنها رائدة فضاء. شعرت بالريبة، همست لنفسي: من أين لها بكل هذا؟ وسألتها، بتردد حذر، إن كانت تعمل هناك.
حينها ألقت بقنبلة الحقيقة: "أنا شخصيًّا مريضة، دخلت المصحة أكثر من مرة."
لم أنطق. بقيت أقرأ كلماتها وكأنني أقرأ نعي طفولتي.
قالت: "حين كنت في التاسعة، أُصبت بنوبة هلع شديدة، أغلقت الباب على إخوتي، أمسكت سكينًا، وطعنت أمي. نُقلت أمي إلى المستشفى، أما أنا، فأُدخلت المصحة."
جفّ ريقي. لم أعد أميز بين قصص الرعب والواقع.
ثم أكملت، ببرود مرعب: "عدتُ إلى المصحة مرات، مرة لأنني ضربت فتاةً حتى دخلت المستشفى، ومرة لأنني طعنت والدي، وأخرى لأنني حاولت الانتحار بعد تعاطي جرعات زائدة... عائلتي كانت تهددني دوماً بإعادتي إلى المصحة، تلك التي لم تكن تعالج، بل تعذب."
كانت تسرد كما يسرد الحكاء قصةً حكاها عشرات المرات. أما أنا، فكنت كمن سُحبت منه الأرض وهو لا يزال يُفكر في تفسير الجاذبية.
كيف تكون بهذا الذكاء، بهذا التوازن الظاهري، بهذا الكم من العمق... وتكون مريضة؟ هل الجنون أصبح يلبس قناع الحكمة؟ أم أن العقل السليم ليس سوى صدفة نادرة؟ كنت أظن أن المرضى النفسيين يظهر عليهم الخلل، أن أصواتهم تفضحهم، أن عيونهم لا تعرف الثبات. لكن ها أنا، وقفت أمام واحدة منهم، شعرت أنها أذكى مني، أعقل مني، وأصدق من كل من عرفت.
في تلك اللحظة، أدركت أن المعرفة وحدها لا تحميك من السقوط. وأن النفس البشرية أعمق من أن تُقرأ كصفحة. وأن أكثر الناس هشاشةً... قد يكونوا أكثرهم اتزانًا في الظاهر.

